الشيخ المفسر عبد الله محمد حسن

إسماعيل إبراهيم المختار
في أواسط السبعينيات، كان الزائر لجامع الخلفاء الراشدين في يوم الأحد من بعد صلاة العصر، يرى رجلا متوسط القامة، خفيف اللحية، حسن الهندام، هادئ القسمات، رخيم الصوت، جالسا على كرسي الدرس بجانب المنبر يفتتح كلمته بالحمد والثناء، ثم التعقيب بقوله: في اللقاء الماضي توقفنا عند قوله تعالى ....، ثم يستطرد في تفسير آيات جديدة، مرتجلا بعربية فصيحة أنيقة. وهذا كان ديدنه ومسلكه كل يوم أحد دون تخلف. ذلكم هو الشيخ الأستاذ المفسر عبدالله محمد حسن الطروعاوي، ربيب الأزهر وخريجها الباسق (وشعراوي إريتريا). 

---

إكنت من المواظبين على حضور درس الشيخ في يوم الأحد، وقد حضرت دروسه في تفسير سور الحواميم كلها، وإلى يومنا هذا، ما من يوم أقرأ فيه سورة من سور الحواميم إلا وترتسم هيئته أمام عيني وكأني أنظر إليه عيانا.
رجع الشيخ إلى موطنه، إريتريا، في أوائل السبعينيات وأصبح مدرسا في المعهد الإسلامي بأسمرة. اختلف الشيخ عن بعض أقرانه بحسه الدعوي العميق، وحرصه على نشر العلم، فكان يلقي تطوعا دروسا في الجامع، غير مكترث بالمخاطر المحيطة. الأيام التي كنا نستمع فيها إلى دروس الشيخ كانت أياما عجافا، حال الناس فيها كان كما قيل قديما: انج سعد فقد هلك سعيد. أيام خلت فيها المساجد من العلماء، وانزوى الناس في بيوتهم خوفا من القتل أو الخطف. أيام فرض فيها حظر التجول من السادسة مساء إلى السادسة صباحا. وما كان للشيخ أن ينزوي ويؤثر السلامة وهو صاحب رسالة، وحامل أمانة، فكان يقطع المسافة الطويلة من بيته إلى الجامع ذهابا وإيابا، والشوارع شبه خالية لا ترى فيها إلا الجنود وعصابات الخطف المتخفية بلباس مدني. كان الشيخ ينتهي من درسه في يوم الأحد قبل وقت قصير من ساعة حظر التجول ويعود إلى بيته مخترقا شوارع إسمرة المقفرة المتوجسة.
كانت دروس الشيخ بالنسبة لنا في تلك الأيام البئيسة بلسم شفاء، وبهجة فؤاد. كانت المناهج الدراسية قد تغيرت إلى المناهج الشيوعية، وجاء مدرسون جدد تشربوا الإلحاد إلى النخاع، فلا شغل لهم إلا السخرية من الدين، والترويج للإلحاد علنا. فرضوا علينا دراسة نظريات ماركس، ولينين، وماوا، وأصبحت الرموز الشيوعية هي النموذج الذي يحتذى بها. لم نمنع من الصلاة، لكن مدرسينا كانوا يسخرون من الصلاة ويعتبرونها تخلفا ورجعية. في هذه الأجواء الخانقة، كانت كلمات الشيخ نسمة تحيي في قلوبنا وهج الإيمان، وتجدد فينا جذوة الإسلام، وتبعث فينا معالم الخير التي حاولوا أن يطمسوها.
وكان من عادة الشيخ أن يمضي إجازة الصيف في البادية مع الفلاحين والمزارعين، يعلمهم، ويربيهم، ويجيب على استفساراتهم. وكنت أراه كثيرا في المكتبة الإسلامية العامة المجاورة للجامع، يراجع فيها أمهات كتب التفاسير. عرفت الشيخ رجلا متواضعا، مبتسما، حسن السمت، تتجلى فيه معاني العالم العالم. وكان فقيها تستشيره دار الإفتاء الإريترية بعد عودتها في عصر الاستقلال. ومما أذكره من دروس شيخنا قصة ذكرها في معرض تفسيره لقوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، قال الشيخ: جاء رجل غير مسلم إلى شيخ أزهري وهو يلقي الدرس في صحن الأزهر، فقال له متحديا: ألم يقل قرآنكم: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، فهل يجيبني قرآنكم كم من الدقيق أحتاج لصنع الخبز، فقال له: نعم، اذهب إلى الخباز وستجد الجواب عنده. قال الرجل: أنا سألت عن الإجابة من القرآن وليس الخباز، فقال الشيخ: أما قرأت قوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون." فالخبازون هم أهل ذكر كل ما يتعلق بالخبز، والقرآن قد دلك عليهم.
 
كانت الأيام الأخيرة من حياة الشيخ صعبة، فقد سجن لفترة من الزمن، واعتلت صحته، وانقطع راتبه الذين كان يأتيه من الأزهر، فعاش صابرا محتسبا متوكلا على ربه. وقد بلغني أن الشيخ لم ينقطع عن درس التفسير، وقد ختم تفسيره أكثر من عشرين ختمة. توفي الشيخ في أسمرة في عام 2011. وقد آتت جهوده ثمارها، وها هم طلبته الأماجد يحملون مشاعل الخير، ومنهم الأستاذ عبد الكريم عبد الله عبدالكريم سعيد قاسم الجبرتي الأزهري، الذي كتب مقالا جيدا عن الشيخ في مجلة نوافذ الإلكترونية، العدد الخامس 2024. وقد سعدت بذلك المقال ليس لمجرد حديثه عن الشيخ، بل لقلمه البارع؛ فعباراته في غاية الجمال والأناقة، وعربيته في غاية الفصاحة والجمال. ولا غرابة في ذلك فهو تلميذ الشيخ وربيب الأزهر، وليته يتحفنا بالمزيد من كتاباته المتألقة. رحم الله شيخنا وجزاه ربنا عنا كل خير.